فصل: فصل في الاغتراس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في الاغتراس:

ابن عرفة: المغارسة جعل وإجازة وذات شركة. اهـ. فالجعل أن يقول الرجل لآخر: اغترس لي هذه الأرض أصولاً كرماً أو تيناً أو ما أشبه ذلك، ولك في كل شجرة تنبت أو تثمر كذا، وكذا قاله في المتيطية، وسينبه الناظم عليه آخر الفصل. والإجارة أن يقول: اغرس لي هذه الأرض كرماً أو تيناً أو ما أشبه ذلك، ولك كذا دراهم أو دنانير أو عرضاً صفته كذا، فهذه إجارة محدودة بالعمل كخياطة الثوب، ولا يجوز أن يجمع فيها بين الأجل والعمل كما تقدم في الإجارة، ومحل جوازها جعالة أو إجارة إذا كانت الغروس من عند رب الأرض سمى له عدد ما يغرس أو لم يسم لأن ذلك معروف عند الناس، وإن كانت الغروس من عند الغارس فتمتنع حيث كانت للغروس قيمة لأنها حينئذ بيع وجعالة وهما لا يجتمعان، أو بيع وإجارة ويجري حكمها على من واجر بناء على أن الآجر والجص من عند البناء، وفيها تفصيل انظره في المقدمات والمتيطية، فالجعالة لا شيء فيها للعامل إلا بتمام عمله بنبات الشجر أو أثمارها على ما شرطاه بخلاف الإجارة فإنه يستحق أجره على مجرد عمله من غير زيادة عليه، وإن لم يتمه فله بحساب ما عمل. وقوله: أو ذات شركة هذا القسم هو المقصود للناظم وغيره، وأما ما قبله فهو داخل في بابي الإجارة والجعل، وهي أن يعطي الرجل أرضه لآخر ليغرسها بجزء معلوم منها يستحقه بالإطعام أو بانقضاء الأجل الذي ضرباه على ما يأتي تفصيله. قال في المتيطية: وهذا القسم ليس بإجارة منفردة ولا جعل منفرد، وإنما أخذ شبهاً من الإجارة للزومه بالعقد يعني: وجواز تحديدها بالأجل كما يأتي وشبهاً من الجعالة لأن الغارس لا شيء له إلا بعد نبات الغرس وبلوغه الحد المشترط، فإن بطل قبل ذلك لم يكن له شيء ولكن من حقه أن يعيده مرة أخرى.
الاغْتِرَاسُ جَائِزٌ لِمَنْ فَعلْ ** مِمَّنْ لهُ البُقعَةُ أَوْ لَهُ العَمَلْ

(الاغتراس) أي العقد على غرس الأرض أصولاً كرماً أو تيناً أو نحوهما مما يطول مكثه سنين كقطن وزعفران في بعض الأرضين لا ما لا يطول مكثه كزرع وبقل، فلا يجوز فيه (جائز) لازم على الراجح (لمن فعل) أي لمن عقد ذلك سواء كان العقد (من له البقعة) أي الأرض (أو) ممن (له العمل) وهو العامل بمعنى أن عقد الاغتراس جائز من رب الأرض والعامل، فأو بمعنى الواو ولكن ينبغي تحديد عمل الغارس إما بالسنين كأن يتعاقدا على أن العامل هو الذي يتولى العمل وحده مدة أربع سنين أو خمس سنين، ونحو ذلك من المدة التي لا يثمر النخل ولا يطعم الشجر قبلها قاله في النهاية. وإن سميا عدة سنين يعمل العامل إليها ثم يكون ذلك بينهما جاز. وقال قبل ذلك: ما لم تكن أشجار تثمر قبل الأجل وإلاَّ لم يجز. اهـ. وما لابن حبيب عن مالك من أنها لا تجوز بالأجل لأنها جعل لا يعول عليه كما حققه ابن يونس، وأما أن يحداها بالمقدار كأن يتعاقدا على أن يتولى العمل وحده إلى أن تبلغ الأشجار قدراً معلوماً سمياه كقامة أو نصفها أو ستة أشبار ونحوها مما لا تطعم الأشجار قبله أيضاً، فإن كانت تطعم قبل بلوغها القدر المسمى من قامة ونحوها أو قبل الأجل المضروب في الصورة الأولى فسدت لأن العامل تكون له تلك الثمرة إلى أن يبلغ الشجر الأجل أو الشباب الذي سمياه ثم يكون له نصف الشجر بأرضه فكأنه أجر نفسه بثمر لم يبد صلاحه وبنصف الأرض وما ينبت فيها قاله البرزلي وغيره. وأما بالأثمار كأن يتفقا على توليته العمل إلى إطعامها كما قال:
والحدّ في خِدْمَتِهِ أَنْ يُطْعِمَا ** وَيَقَعُ القَسْمُ بِجُزْءٍ عُلِمَا

(والحد في خدمته) أي الغارس أو الشجر المفهوم من السياق فهو من إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله. (أن يطعما) هو أي الشجر وتفسد إن شرطا زيادة عليه للعلة المتقدمة، فالإطعام هو أحد الأمور التي تحد المغارسة به كما ترى لا أنها لا تحد إلا به كما يقتضيه النظم فإن سكتا ولم يحداها بإطعام ولا بغيره مما ذكر فهي جائزة صحيحة عند ابن حبيب. وتكون إلى الإطعام، وقيل هي فاسدة والأول المعتمد، وعليه اقتصر غير واحد، ولذا قلنا ينبغي تحديد عمل الغارس إلخ. لصحتها عند السكت، ولكن محل صحتها عنده إذا كان العرف التحديد بالإطعام ونحوه مما تقدم كما عندنا اليوم، وأما إذا كان العرف أن العامل يبقى عاملاً ما عاش فهي فاسدة عند السكت لأن العرف كالشرط ويمكن أن يحمل النظم على مسألة السكت وأن الحد فيها إذا سكتا هو الإطعام وهو الظاهر وعليه فلا اعتراض عليه، ثم إذا انقضى ما حدث به فإنهما يقتسمان كما قال:
(ويقع القسم) فيأخذ كل واحد نصيبه من الأرض والشجر ولهما البقاء على الشركة مشاعة، ويكون العمل عليهما على قدر الأنصباء، وقد تحصل مما مر أن من شروطها أن لا يزيد الأجل أو الشباب أو العمل المشترط على الإطعام كما مر، ومن شروطها أيضاً أن تكون (بجزء علما) كنصف أو ثلث أو ربع فهو متعلق بقوله جائز: ومن شروطها أيضاً: أن يدخلا على أن هذا الجزء شائع في الشجر والأرض أو في الشجر ومواضع أصولها من الأرض دون بقية الأرض فهي لربها كما يأتي في قوله: وشرط بقيا غير موضع الشجر إلخ. ولو قدمه هنا لكان أحسن فإن سكتا ولم يشترطا شيئاً فيحمل الأمر على شيوعه في الأرض والشجر، وأما إن دخلا على شيوعه في الشجر خاصة ولا حق لأصولها في الأرض أو على أن الأرض بينهما دون الشجر فهي فاسدة. ومن شروطها أيضاً: أن تكون الأرض بيضاء احترازاً مما إذا كانت مشعرة كلها أو جلها فإن المغارسة حينئذ لا تجوز كما يأتي في قوله: وشرط ما يثقل كالجدار إلخ.
وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ مِمَّا عَمِلا ** شَيْءٌ إلى ما جَعَلاَهُ أَجَلا

(وليس للعامل مما عملا شيء إلى) وصول (ما جعلاه أجلا) من إطعام أو شباب أو أجل. قال في النهاية: ولا شيء للعامل في أرض ولا شجر حتى يبلغ الغرس ما شرطاه مما ذكرنا جوازه، وقال قبل ذلك: فإن بطل الغرس يعني بحرق أو آفة قبل بلوغه الحد المشترط لم يكن له شيء. اهـ. لأنها جعل فهي كحافر البئر ينهدم قبل فراغه فلا شيء له. قال المتيطي والفشتالي وغيرهما: ولكن إذا بطل الغرس بحرق ونحوه فمن حق العامل أن يعيده مرة أخرى. اهـ. زاد البرزلي: يعيده أبداً إلى أن يتم أو ييأس منه. اهـ. ومفهوم النظم أنه إذا وصل الغرس الأجل المشترط فإنه يكون له نصيبه منه، فلو احترق الغرس أو طرأت عليه آفة قبل القسم فإن الأرض تكون بينهما لأن العامل قد استحق نصيبه منها بتمام الغرس قاله ابن سلمون. قال: ولو كان في الأرض شجرة قبل المغارسة فهي لرب الأرض ولا يكون للعامل فيها شيء ولا يسوغ له أن يشترط أن تكون بينهما مع الغرس وللعامل أجرة سقيها وعلاجها. اهـ. ونحوه في البرزلي قائلاً: ولا تصح المغارسة على البياض الذي بين السواد، ويدخل الشجر في المغارسة وإن كان على إخراجه فإن كان لا يصل إلى شجره منفعة سقي أو غيره فهو جائز وإلاَّ لم يجز. اهـ.
قلت: وما يفعله الناس اليوم فيما إذا كانت الأرض مشتملة على أشجار فيشتري العامل نصف الأشجار على شرط أن يغرس البياض الذي بينهما مناصفة فاسد لما فيه من اجتماع المغارسة والبيع، وهما يجتمعان كما مرّ صدر البيوع عن ابن الحاج، اللهم إلا أن يرتكب في ذلك مذهب أشهب إذ هذه الصورة لا سبيل لجواز المغارسة فيها. ولو فرضنا أنه يؤاجره على خدمة الأشجار لمدة معلومة بعوض معلوم، لأن الإجارة من ناحية البيع والمغارسة من ناحية الجعل كما مر. نعم على مذهب أشهب يجوز ذلك، وقد تقدم في الباب قبله عن ابن لب أن ما جرى به عرف الناس يلتمس له وجه ما أمكن، إذا لا يلزم العمل بمذهب معين ولا بمشهور من قول قائل، ويؤيده أيضاً ما في البرزلي في باب القراض قال، قال المازري: وقفت على كتاب الشيخ أبي محمد بخط يده وفيه من قال لرجل: إذا جاءك فلان فخذ السلع التي بيده وادفع إليه ديناراً عن أجرته وبقية الثمن ادفعه إليه قراضاً إن ذلك جائز، المازري: واستشكل هذا بأنه يقتضي جواز اجتماع القراض والإجارة والجعل في عقد واحد. البرزلي: وعليه اكثر قراضات الناس اليوم. اهـ.
وَشَرْطُ بُقْيا غَيْرِ مَوْضِعِ الشِّجَرْ ** لِرَبِّ الأَرْضِ سَائِغٌ إذَا صَدَرْ

(وشرط بقيا) أي بقاء (غير موضع الشجر) من الأرض (لرب الأرض سائغ إذا صدر) منه فيجب أن يوفى له به كما مر. البرزلي: إذا غارسه على أخذ مواضع الشجر فليس للعامل شيء من بقية الأرض وليس عليه عمل فيها، ويتصرف رب الأرض فيها كيفما شاء ما عدا مواضع الشجر.
وَشَرْطُ ما يَثْقُلُ كالجِدَارِ ** مُمْتَنِعٌ وَالعَكْسُ أمْرٌ جَارِي

(وشرط ما يثقل) على العامل (كالجدار) يبنيه حول أرض المغارسة أو حفر بئر فيها تكثر نفقته أو تكون الأرض مشعرة كلها أو جلها، فيشترط عليه إزالة شعرها، ونحو ذلك مما يثقل عليه عمله وتعظم مؤنته (ممتنع) للغرر لأن الغرس ربما بطل أو هلك قبل بلوغ الحد المشترط فترجع لربها، وقد انتفع بإزالة شعرها وبناء جدارها وحفر بئرها فيذهب عمل العامل باطلاً، وقد علمت أن المغارسة من ناحية الجعل وهو لا يجوز إلا فيما لو ترك العامل لم ينتفع الجاعل بشيء كما مر، فإن كان فيها لمع يسيرة من الشعر تخف إزالتها أو حفر شرب يخف أمره ونحو ذلك من تزريب ونحوه فلا بأس باشتراطه كما في النهاية، وهو معنى قوله: (والعكس) وهو شرط ما يخف (أمر جار) عند الناس جائز شرعاً.
تنبيهات:
الأول: يفهم من النظم أنه لا يشترط بيان نوع الغرس من زيتون أو تفاح ونحو ذلك، وهو كذلك. وإنما يطلب بيانه فقط حيث كان بعض الغرس أضر من بعض، فإن لم يبيناه فالعقد صحيح ويمنع من غرس الأضر كما قالوه فيمن اكترى أرضاً للغرس ولم يبين نوع ما يغرس فيها، فمذهب ابن القاسم صحة العقد ويمنع من فعل الأضر، وقال غيره: يفسد العقد كما في ضيح، ونقله في حاشية الشيخ البناني عند قول (خ) في الإجارة: أو لم يعين في الأرض بناء أو غرس وبعضه أضر ولا عرف إلخ. وقد علمت أن المغارسة أخذت شبهاً من الكراء كما مر، ويؤيده ما يأتي في التنبيه الرابع، وهذا كله إذا لم يقل له: اغرس في الأرض ما شئت وإلاَّ جاز مطلقاً أو جرت العادة بذلك لأنها كالشرط وإلاَّ جاز مطلقاً. وقول صاحب كتاب المغارسة: ووجب بيان ما يغرس لاختلاف الأشجار في مدة الأثمار وفي قلة الخدمة وكثرتها غير ظاهر، لأن العامل إذا غرس ما يطول أثماره وما تكثر خدمته فقد رضي بطول عمله وكثرة خدمته لغرض له في ذلك المغروس، والناس عندنا اليوم لا يبينون شيئاً للعادة ولا يتشاحون في مثل ذلك، فلا يتعرض لفسخ عقدهم بعدم البيان ولاسيما على ما مر قريباً عن ابن لب.
الثاني: ما نبت في أرض المغارسة بنفسه بعد عقدها ولم يغرسه الغارس فهو بينهما كالمغروس.
الثالث: إذا حددت المغارسة بالإطعام فإن أطعم جلها فالذي لم يطعم تبع لما أطعم ويسقط عن العامل العمل في الجميع ويقتسمان إن شاءا، وإن لم يطعم جلها بل أقلها فإن كان ذلك الأقل إلى ناحية كان بينهما وسقط العمل فيه ولزمه العمل في غيره، وإن كان مختلطاً لزمه العمل في الجميع قاله في المتيطية وغيرها.
الرابع: قيد بعض المتأخرين مغارسة الأنواع أو النوع الواحد بما إذا كانت تطعم في زمن واحد أو متلاحق وأما إذا كانت تختلف بالتبكير والتأخير فلا يجوز في عقد واحد. البرزلي: وظاهر إطلاق قول ابن حبيب: إذا لم يسميا أجلاً ولا شباباً فهي إلى الإطعام أنها تجوز ولو لم تتلاحق الأنواع أو النوع الواحد في الإطعام. اهـ.
قلت: ما ذكره من الجواز على ظاهر ابن حبيب هو المتعين، إذ النوع الواحد قد يتأخر كثير من أفراده عن البعض الآخر في الإطعام تأخيراً كثيراً كما هو مشاهد بالعيان، فكيف بذلك في الأنواع المختلفة؟ ولذا قالوا: إذا أطعم الأكثر فالأقل تابع كما مر، وإنما يحسن أن يقال بالمنع في هذا لو كان ثمره ما أطعم يكون للعامل، لأنه حينئذ يكون آجر نفسه بثمر لم يبد صلاحه كما مر، ومع ذلك يقيد بما إذا كان ما أطعم غير تابع، وإلاَّ فلا ينظر له. ولو كان ثمر للعامل كما هو ظاهر ما تقدم لأن التوابع يغتفر فيها ما لا يغتفر في متبوعاتها، وهذا يبين لك صحة ما قدمناه في التنبيه الأول، وإن ما ذكره صاحب كتاب المغارسة من وجوب بيان المغروس لاختلاف الأشجار في مدة الإثمار إلخ. إنما يتمشى على ما قاله بعض المتأخرين وهو: وإن اقتصر عليه في النهاية قائلاً: ويفسخ إن كانت لا تتلاحق إلا بعد بُعد وللعامل أجر مثله إن عمل غير ظاهر كما ترى والله أعلم.
الخامس: إذا واجره بنصف الأرض على أن يغرس النصف الباقي فإن ذلك لا يجوز سواء شرطا القسمة قبل الغرس أو بعد غرس الجميع قاله ابن رشد في أجوبته، وعلله بأنه لا يدري ما يخرج له بالسهم فصار العوض مجهولاً، وما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يكون أجرة، وأطال في ذلك إلى أن قال: فلا يجوز الاستئجار على غرس نصف الأرض بنصفها الآخر على الإشاعة إلا أن تكون مستوية تعتدل في القسمة بالذراع، ويشترطان قسمتها قبل الغرس ويعينا الجهة التي يأخذ الأجير منها النصف لنفسه في أجرته، والجهة التي يغرسها لرب الأرض. اهـ. بتقديم وتأخير. وما علل به من أن لا يدري ما يخرج له بالسهم هو قول (خ) في القسمة: ومنع اشتراط الخارج إلخ. وهذه إجارة لا مغارسة، فلذا امتنعت بالجهل المذكور لأن الأجير يملك نصف الأرض بالعقد، ولا يدري في أي محل يخرج له بخلاف المغارسة فلا يملكه بالعقد بل بتمام العمل ويكون شريكاً.
السادس: إذا عجز الغارس قبل تمام العمل أو أراد سفراً فله أن يأتي بمن هو مثله يكمل عمله بأقل من الجزء الذي دخل عليه أو بمساوٍ له إلا أن يقول رب الأرض: أنا آخذه بذلك الأقل أو المساوي، فإن سلمه هدراً ولم يرض رب الأرض وقال: أنا استأجر من يكمل العمل وأبيع حصته فالفضل له والنقصان عليه، فله ذلك كما تقدم في عامل المساقاة كذا ينبغي قاله في شرح كتاب المغارسة.
قلت: وكذا قال البرزلي: الجاري على المساقاة جواز إعطائها بجزء، بل ونقل بعد ذلك عن ابن رشد أنه يجوز له أن يعطيها لرب الأرض أو غيره بجزئها الذي أخذها به، ولا مقال لرب الأرض في ذلك.
السابع: في المغارسة الفاسدة وإن اختلفت أنواع فسادها كما لابن الحاج حسبما في البرزلي، يعني ككونها مؤقتة بأجل أو شباب تثمر الأشجار قبله، أو شرط بناء جدار وتعظم مؤنته، أو كانت الأرض مشعرة كلها أو جلها، أو شرط عليه القيام على الغرس ما عاش، أو شرط إدخال ما كان من الشجر موجوداً، أو أن الأرض بينهما دون الشجر، أو لا حق للشجر من الأرض ونحو ذلك. ثلاثة أقوال لابن القاسم:
أحدها: أنها تمضي لأنها بيع فاسد فاتت بالفراغ وبلوغ الإطعام، ويكون على العامل نصف قيمة الأرض يوم قبضها براحاً، وله على رب الأرض قيمة عمله وغراسه في النصف الذي صار إليه إلى أن بلغ وله أجرته فيه أيضاً من يومئذ إلى يوم الحكم، وإن اغتل الغلة قبل ذلك مضت بينهما، وإن اغتلها الغارس وحده رد نصف ذلك إلى رب الأرض وبهذا القول صدر ابن يونس قائلاً، واستحسنه ابن حبيب، وبه قال مطرف وأصبغ، واستحسنه عيسى أيضاً مثل ابن حبيب، ورجع إليه ابن القاسم وثبت عليه. اهـ. وعليه اقتصر صاحب المفيد والمعين وصاحب النهاية.
ثانيها: أنها بيع فاسد أيضاً قد فات فالغلة كلها للعامل، ويرد رب الأرض ما أخذ منها إن قبضها رطباً رد قيمتها أو تمراً رد مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت، وعلى العامل قيمة نصف الأرض يوم قبضها وعليه كراء نصف الأرض الذي لربها، ويخير رب الأرض في نصف الغرس الذي صار إليه بين أن يعطيه قيمته مقلوعاً أو يأمره بقلعه، وهذا القول رواه عيسى وحسين بن عاصم عن ابن القاسم أيضاً، وبه أفتى بعض الشيوخ حسبما في المعيار إلا أنه أجمل قوله: واقتصر عليه شارح العمليات عند قوله: واعط أرض حبس مغارسه إلخ. وبه أفتى الفقيه أبو زيد عبد الرحمن الفاسي حسبما في نوازل الزياتي قائلاً: وهو الذي رجحه القاضي أبو الوليد، ولعله يشير إلى تصحيح ابن رشد له في المقدمات على ما يقتضيه كلام الرهوني في حاشيته.
ثالثها: إن للعامل قيمة غرسه أي الأعواد التي غرسها، وقيمة عمله أي معالجته إلى يوم الحكم والغرس كله لرب الأرض ولا شيء للعامل فيه، ويرد ما أخذه من الثمرة أي مكيلتها إن علمت أو قيمتها إن جهلت وهو لابن القاسم أيضاً، وبه قال سحنون وصدر به في البيان والمقدمات، واقتصر عليه في المقصد المحمود وابن سلمون، وتقدم مثله عن النهاية في التنبيه الرابع، فصاحب النهاية اقتصر على الأول أولاً وعلى الثالث ثانياً، وبه افتى الرهوني في حاشيته حسبما ذكره في باب المساقاة قائلاً: إنه الذي أفتى به ابن عتاب وابن مرزوق وابن رشد، ونقل كلام الجميع. لكن ما ذكره من ان ابن رشد أفتى به فليس كذلك، بل ما أفتى به ابن رشد إنما هو فيما إذا واجره بنصف أرضه على غرس النصف الباقي كما مر في التنبيه الخامس، ويدل عليه قوله: سواء شرطا القسمة قبل الغرس إلخ. لأن المغارسة لا تتأتى فيها القسمة قبل الغرس، وعلى أن ذلك إجارة اختصره أحلولو لنوازل البرزلي، والخلاف المذكور جار على الجعل هل يرد إلى صحيح نفسه أو فاسد أصله وهو الإجارة؟ فالأولان يردانها إلى صحيح مثلها بخلاف الثالث. قال معناه البرزلي، ثم إن الذي يجب اعتماده من هذه الأقوال هو أولها لكثرة قائلها، ورجوع ابن القاسم إليه وثبوته عليه، واستحسان ابن حبيب وعيسى له تاركاً ما رواه عنه مع حسين بن عاصم، وإن كان الثاني رجحه ابن رشد، والثالث قال به سحنون، واختاره ابن عتاب لأن ترجيحهما لا يقاوم ذلك، وقولهم: لا يعدل عن قول ابن القاسم إن وافقه سحنون محله إذا لم يرجع ابن القاسم إلى غيره ويثبت عليه كما هنا والله أعلم. وانظر كيفية تقويم الأرض المشعرة بعد الفوات في ابن عرضون، وانظر ما يأتي آخر القراض من أن ما فيه قراض أو مساقاة المثل يمضي بالشروع فالمغارسة والجعل كذلك، لأن الجميع مستثنى من الإجارة.
الثامن: مسألة التقليم وهي تركيب الزيتون الحلو أو نحوه في المر المنصوص منعها حسبما للقوري عن العبدوسي، والذي به العمل أنها تجري مجرى المغارسة فتصح مع توفر شروطها وتفسد مع عدمها، وهو ظاهر البرزلي، بل صريحه، وعليه اختصره الونشريسي ونص اختصاره. قال البرزلي: وإن دفع أشجاراً من زيتون أو خروب على أن يركبها صنفاً طيباً ويقوم عليها حتى تثمر، فإن وقعت على الشروط المذكورة في المغارسة فجائز، وإلا فلا. اهـ. ونحوه في اختصار أحلولو له ونصه: ومن هذا مسألة تقع بجبل وسلات وهي أن يعطى الرجل شجر زيتون ونحوه على أن يركبها صنفاً طيباً ويقوم عليها حتى تثمر فتكون الثمرة بينهما حتى تبلى الشجرة ولا يكون له في الأرض شيء، فهي من معنى ما تقدم من المغارسة حتى تبلى الأصول فتبقى الأرض لربها وهي فاسدة ويجري الأمر فيها إذا وقعت على ما تقدم من الخلاف. اهـ. ومفهوم قوله: حتى تبلى الأصول فتبقى الأرض لربها إلخ. أنهما إذا دخلا على أن الشجر ومواضعها من الأرض بينهما فهي جائزة، فما قالوه من منعها إنما هو إذا كانت الأرض تبقى لربها إذا بليت الأشجار، وكان ابن حسون المزجاري يجيزها ولو على هذا الشرط ويعلل ذلك لأن سطح الشجرة كسطح الأرض، فيجوز فيها ما يجوز في المغارسة في الأرض، فإذا بليت الأشجار فكما لو بليت الأرض بزلزلة ونحوها، ثم إذا وقعت جائزة وبليت الشجرة الواجبة للعامل في نصيبه، فله أن يغرس أخرى مكانها لأنه قد ملكها مع محلها.
التاسع: إذا غرس الشريك أو بنى بإذن شريكه أو بغير إذنه فله قيمته مقلوعاً، كما نظم ذلك بعضهم بقوله:
فقيمة البناء مقلوعاً أتت ** في سبعة معدودة قد ثبتت

في الغصب والثنيا وفي العواري ** وفي الكرا وغرس أرض الجار

كذاك في أرض لموروث وفي ** أرض الشريك حصلنه تقتفي

بإذن أو بغيره قد نقلا ** عن ابن القاسم إمام النبلا

والمسألة مبسوطة في الاستحقاق من شرحنا للشامل وفيها اضطراب. وفي اختصار الونشريسي للبرزلي ما نصه: ومن أول كتاب الاستحقاق من البيان إذا بنى الشريك أو غرس بإذن شريكه فهل يكون لشريكه نصيبه من المغروس ويدفع فيما نابه منه قيمته قائماً للشبهة وهو قول أكثر أهل المذهب أو قيمته مقلوعاً؟ قال: ومنه ما هو منصوص لأهل المذهب أن من عمل في أرض زوجته ثم مات فلورثته قيمته قائماً وقيل مقلوعاً. قلت: الظاهر أن ذلك بغير إذنها أو يقال كانت مكرهة ولاسيما حيث لا أحكام. اهـ. قلت: وقد اختلف في السكوت هل هو إذن أو ليس بإذن؟ وأظهر القولين كما مر في بيع الفضولي أنه ليس بإذن إلا فيما يعلم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه إلا برضا منه، فيكون إذناً ورضا، وعادة الشركاء اليوم التشاح التام في الغرس والبناء في الأرض المشتركة فالسكوت إذن ورضا، وقد علمت فيه أنه يأخذ قيمته قائماً على قول الأكثر وهو المعتمد، وعليه اقتصر الفشتالي في وثائقه، وبه شاهدت الأحكام وقت الشبيبة، وبه كنت أفتي وأنظر كيفية التقويم قائماً في نوازل الشركة من العلمي، وأما إن بنى أو غرس بغير إذنه ولا سكوته فإنما له قيمته مقلوعاً قولاً واحداً. نعم إن غرس أو بنى قدر حصته فقط فأقل فلا غلة عليه ولا كراء في نصيبهم إن أرادوا القسمة وله عليهم الكراء في حصتهم من الزبن والخدمة والتزريب في كل سنة لأنه قام عليهم بواجب، وإنما قلنا لا غلة عليه لقول ناظم العمل:
وما على الشريك يوماً إن سكن ** في قدر حظه لغيره ثمن

فلا مفهوم لسكن بل كذلك إذا حرث أو غرس، وإنما قلنا: وله عليهم الكراء للقاعدة المتقدمة عند قول الناظم في الإجارة: والقول للعامل حيث يختلف إلخ. فراع شروطها هنا. وهذا كله مع وجود الأحكام، وأما مع عدمها فإذا غرس الغارس أو بنى أو قلع البور والغابة ونحوها. وكان ذلك قدر حظه فقط وترك قدر حظ الآخر المماثل لما غرسه وبناه وقلعه في الجودة وغيرها، فإنه يختص بغرسه وتقليعه لأنه قد فعل فعلاً لو رفع إلى القاضي لم يفعل غيره إذ ذاك غاية المقدور، وكل ما كان كذلك ففعله ماض كما ذكر هذه القاعدة أبو الحسن والبرزلي وغيرهما. ونقلها (ق) عند قوله في الخلع: وجاز من الأب عن المجبرة إلخ. وعادة البوادي اليوم بل وبعض الحواضر الاستخفاف بالأحكام وعدم المبالاة بها على ما شاهدناه، وحينئذ فللغارس غرسه ولو لم يطلب القسمة بحضرة العدول ولا أشهدهم على الطلب المذكور، إذ لا فائدة في الطلب والإشهاد عليه حيث كانت عادتهم ما ذكر وما علم بمستقر العادة عدمه لا يطلب المرء بفعله والله أعلم.
العاشر: في الطرر عن المشاور: إذا بنى الوارث بحضرة شريكه وعلمه ولا يغير عليه ثم باعه أو بعضه فقام الشريك فأراد أخذ نصيبه منه والباقي بالشفعة، فإن قام عليه أو على ورثته قبل انقطاع حجته وذلك الأربعون سنة فأقل، فإنه يقسم ذلك فما صار في حق القائم كان له وكان بالخيار في دفع قيمة البنيان والغرس مقلوعاً أو يأمره بقلعه، ولم يكن له كراء فيما سكن من نصيبه، ولا غلة فيما اغتل لأنه أذن له فيه إذا كان بعلمه، ولم تكن له شفعة لأن البيع يفسخ ولا يتم العقد إلا بعد القسم إن أحب المبتاع ذلك، وإن لم يعلم بذلك حتى قام فله كراء ما صار له من البقعة على الباني والغارس، وقيل: إنه يأخذه قائماً. اهـ. فقوله: وكان بالخيار إلخ. محله إذا قلنا: إن السكوت ليس بإذن لعدم التشاح في الغرس ونحوه كما مر، ومحل دفع قيمته مقلوعاً إلخ. إذا كان الغارس يتولى ذلك بنفسه أو عبيده وإلاَّ فللغارس عليه أجرة عمله وقيامه وعلاجه، كما أشرنا له قبل في القاعدة المتقدمة في الإجارة. وقوله: ولا غلة فيما اغتل مبني على أن السكوت إذن، وقوله: لأن البيع يفسخ إلخ. أي لأن استحقاق بعض المبيع كعيب به، وهو معنى قول (خ) في العيوب: وخير المشتري إن غيب أو عيب أو استحق شائع وإن قل إلخ.
الحادي عشر: تقدم في الشفعة أن المغارسة فيها الشفعة لأنها بيع لكن بعد تمام العمل وأما قبله ففيه خلاف، فقال ابن الحاج: لا يجوز البيع لأنه لم يجب له نصيبه إلا بتمام عمله ولو مات لخير وارثه ولو بيت مال بين العمل أو الترك. البرزلي: إجراء لها على المساقاة، فلذا يخير الوارث لكونها في الذمة ولزومها بالعقد، وعليه نقل بعض المتأخرين عن الرماح وغيره عن المذهب، أنه يجوز لكل واحد منهما بيع نصيبه من الأرض والشجر إذا كان المشتري يعمل في ذلك كعمل البائع. اهـ. ثم نقل بعد هذا عن ابن رشد، أنه يجوز للعامل أن يبيع من رب الأرض أو غيره أو يعطيها له أو بغيره بجزئها الذي أخذها به. اهـ. قال سيدي عبد القادر الفاسي: وبعدم صحة البيع تجري الأحكام هاهنا في فاس اليوم. قال: وإذا لم يصح البيع فلا شفعة وعلى صحته فالشفعة واجبة قال: والمسألة ناظرة إلى قاعدة الشركة التي يوجبها الحكم هل تجب الشفعة فيها قبل تقررها أم لا؟ ابن رشد: وقول مالك بأنه لا شفعة فيها أصح.
الثاني عشر: قال أصبغ: من أعطى أرضه مغارسة فلم يتم العمل حتى عجز العامل أو غاب فأدخل رب الأرض في الغرس من قام به وعمل ما بقي أو تولاه رب الأرض المذكور بيده، ثم قدم العامل وقام فهو على حقه، وكذلك لو كان حاضراً ولم يسلم ذلك ولم ير أنه تركه ويعطي للثاني قدر ما تكلف مما لو وليه لزمه مثله اه من اختصار الونشريسي واحلولو. وعن ابن خجوا في رجلين أخذا أرضاً مغارسة فغرساها وتولى أحدهما الخدمة والقيام إلى الإطعام قال: يكون للقائم بالغرس أجرة مثله ويقتسمان ما غرساه على ما دخلا عليه. اهـ. من نوازل الزياتي وهو يبين له ما قبله.
وَجَازَ أَنْ يُعْطَى بِكُلِّ شَجَرَهْ ** تَنْبُتُ مِنْهُ حِصَّةً مُقَدَّرَهْ

(وجاز) أي العقد على (أن يعطى) الغارس (بكل شجرة تنبت منه) أي من الغرس (حصة مقدرة). وهذا جعل محض إن كان المعطى دراهم أو دنانير أو عرضاً وله الترك متى شاء، كما مر أول الفصل إلا أن قول الناظم حصة شامل لجزء من الأرض والمغروس، وفيه ورد النص عن ابن القاسم كما في ابن يونس ونصه قال ابن القاسم: لو قال أستأجرك على أن تغرس لي في هذه الأرض كذا وكذا نخلة فما نبت فهو بيني وبينك فهو جعل وليس إجارة، ولو شاء أن يترك ترك ولو لم يكن جعلاً ما جاز لأنه لا يدري أيتم أم لا. اهـ. وأنت خبير بأن هذه الصورة هي عين المغارسة التي تقدم الكلام فيها إلا أن ابن القاسم ذهب في هذا القول على إنها لا تلزم بالعقد وهو خلاف المعتمد من لزومها به كما مر ولذا قال البرزلي عقب نقله قول ابن القاسم ما نصه: قلت هذا خلاف ما حكاه المازري عن عبد الحميد الصائغ أن المغارسة والإجارة على البلاغ مما يلزمان بالعقد، وإن كان من أبواب الجعل وأنهما خرجا عنه في هذا. وفي كون الجعالة فيهما لها مؤنة كثيرة للضرورة إليها. اهـ. وقوله: لها مؤنة كثيرة إلخ. يعني أن الجعل لا يجوز على العمل الكثير كما قال (خ): إلا كبيع سلع لا يأخذ شيئاً إلا بالجميع، والمغارسة والإجارة على البلاغ خالفاه في هذا فيجوزان على العمل الكثير للضرورة، وخالفاه أيضاً في اللزوم بالعقد.